سورة طه - تفسير تفسير ابن عجيبة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (طه)


        


يقول الحقّ جلّ جلاله: لبني إسرائيل، بعد ما أنجاهم من الغرق، وأفاض عليهم من فنون النعم الدينية والدنيوية: {يا بني إِسرائيل قد أنجيناكم من عدوكم}؛ فرعون وقومه، حيث كانوا {يَسُومُونَكُمْ سواء العذاب يُذَبِّحُونَ أَبْنَآءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَآءَكُمْ} [البَقَرَة: 49]، {ووعدناكم جانبَ الطُّورِ الأيمنِ} أي: واعدناكم بواسطة نبيكم، إتيان جانب الطور، الجانب الأيمن منه للمناجاة وإنزال التوراة. وهل هو الطور الذي أبصر فيه النار ووقعت فيه الرسالة، أو غيره؟ خلاف. ونسبة المواعدة إليهم ممع كونه لموسى عليه السلام خاصة، أو له وللسبعين المختارين، نظرٌ إلى ملابستها إياهم، وسراية منفعتها إليهم، وإعطاء لمقام الامتنان حقه. كما في قوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ} [الأعرَاف: 11]؛ حيث نسب الخلق والتصوير للمخاطبين، مع أن المخلوق كذلك هو آدم عليه السلام.
ثم قال تعالى: {ونزَّلنا عليكم} حين تُهتم، {المنَّ والسَّلْوى} أي: الترنجبين والطير السُّماني، حيث كان ينزل عليهم المنَّ وهم في التيه، مثل الثلج، من الفجر إلى الطلوع، لكل إنسان صالح، ويبعث الجنوب عليهم السُّماني، فيذبح الرجل منه ما يكفيه. وقلنا لهم: {كُلوا من طيباتِ ما رزقناكم} أي: من لذائده، أو حلاله. وفي البدء بنعمة الإنجاء ثم بالنعمة الدينية ثم بالنعمة الدنيوية من حسن الترتيب ما لا يخفى. {ولا تطغَوا فيه} أي: فيما رزقناكم بالإخلال بشكره، والتَعدي لما حَدَّ لكم فيه، كالترفه والبطر والمنع من المستحق. وقال القشيري: مجاوزة الحلال إلى الحرام، أو بالزيادة على الكفاف وما لا بُدَّ منه، فأزاد على سدِّ الرمق، أو بالأكل على الغفلة والنسيان. اهـ. وقيل: لا تدخروا، فادَّخروا فتعودوا، وقيل: لا تنفقوه في المعصية، {فيَحِلَّ عليكم غضبي} بفعل شيء من ذلك، أي: ينزل ويجب، من حَلَّ الدين؛ إذا وجب. {ومَن يَحْلِلْ عليه غضبي فقد هَوَى} أي: تردَّى وهلك، أو وقع في المهاوي.
{وإِني لغفارٌ} أي: كثير الغفران {لمن تابَ} عن الشرك والمعاصي، التي من جملتها الطغيان فميا ذكر، {وآمن} بما يجب الإيمان به، {وعَمِلَ صالحًا} أي: عملاً صالحًا مستقيمًا عند الشرع، وفيه ترغيب وحث لمن وقع في زلَّة أو طغيان على التوبة والإيمان، {ثم اهتدى} أي: استقام على الهدى ودام عليها حتى مات. وفيه إشارة إلى أن من لم يستمر عليها بمعزل عن الغفران. قال الكواشي: {ثم اهتدى} أي: علم أن ذلك بتوفيق من الله تعالى. اهـ.
الإشارة: إذا ذهبت عن العبد أيام المحن، وجاءت له أيام المنن، فينبغي له أن يتذكر ما سلف له من المحن، وينظر ما هو فيه الآن من المنن، ليزداد شكرًا وتواضعًا، فتزداد نعمه، وتتواتر عليه الخيرات. وأما إن نسي أيام المحن، ولم يشكر ما هو فيه من المنن، فحقيق أن تزول عنه، ويرجع إلى ما كان عليه.
وتَذَكَّرْ حديث الأبرص والأقرع والأعمى، حسبما في الصحيح. فإن الأبرص والأقرع، حين شفاها الله وأغناهما، أنكرا ما كانا عليه، فرجعا إلى ما كانا عليه، والأعمى حين أقر بما كان عليه، وشكر الحال الذي حال إليه، دامت نعمته وكثر خيره. فالشكر قيد الموجود وصيد المفقود. فيقال لأهل النعم، إن قاموا بشكرها: كُلوا من طيبات ما رزقناكم، ولا تطغوا فيه، بأن تصرفوه في غير محله، أو تمنعوه عن مستحقه، {فيحلَّ عليكم غضبي...} الآية.
وقوله تعالى: {وإِني لغفار لمن تاب...} إلخ، قال القشيري: {وإني لغفار لمن تاب} من الزَّلَّة {وآمن} فلم يَرَ أعماله من نَفْسه، بل جميع الحوادث من الحقِّ، {وعمل صالحًا} فلم يُخِلّ بالفرائض، {ثم اهتدى} للسُّنَّةِ والجماعة، وقال أيضًا: ثم اهتدى بنا إلينا. اهـ.
قال الورتجبي: التائب: المنقطعُ إلى الله، والمؤمن: العارف بالله، والعمل الصالح: تركه ما دون الله، فإذا كان كذلك، فاهتدى بالله إلى الله، ويكون مغمورًا برحمة الله، ومعصومًا بعصمة الله. اهـ.


يقول الحقّ جلّ جلاله لموسى عليه السلام، لما ذهب إلى الطور، لموافاة الميقات، للعهد الذي عهد إليه، واختار سبعين من بني إسرائيل، يحضرون معه؛ لأخذ التوراة بأمره تعالى، فلما دنا من الجبل حمله الشوق، فاستعجل إلى الجبل، وترك قومه أسفله، فقال له الحق جلّ جلاله: {وما أعجَلَكَ عن قومك يا موسى} أي: ما حملك على العَجَلَة، وأيُّ شيء أعجلك منفردًا عن قومك، وقد أمرتك باستصحابهم، ولعل في إفرادك عنهم عدم اعتناء بهم؟ فأجاب عليه السلام بقول: {هُمْ أُولاءِ على أَثَري} أي: هم هؤلاء قريبًا مني، فهُم معي، وإنما سبقتهم بخطا يسيرة، ظننت أنها لا تُخلُّ بالمعية، ولا تقدح في الاستصحاب، فإن ذلك مما لا يُعتد به فيما بين الرفقة.
قال الكواشي: ولما كان سُؤال الرب تعالى لموسى يقتضي شيئين: أحدهما: إنكار العَجَلة، والثاني: السؤال عن السبب والحامل عليها، كان أهم الأمرين إلى موسى بسَطَ العذر وتمهيد العلة في نفس ما أنكر عليه، فاعتل أن قال: إن ما وُجدَ مني تقدم يسير، لا يُعتد بمثله في العادة لقربه، كما يتقدم الوفدَ رئيسُهم ومُتقدمُهم، ثم عقبه بجواب السؤال فقال: {عَجِلْتُ إِليك رَبِّ لِترضَى}؛ لتزداد عني رضا؛ لمسارعتي إلى الامتثال لأمرك، واعتنائي بالوفاء بعهدك؛ لأنه ظن أن إسراعه إليه أبلغ في رضاه. وفي هذا دليل على جواز الاجتهاد للأنبياء- عليهم السلام- والمعنى: لتعلم أني أُحبك ولا قرار لي مع غيرك. اهـ.
وقال القشيري: {هم أولاء على أثري}؛ ما خلَّفْتُهم لتضييعي إياهم، ولكن عَجِلْتُ إليك ربِّ لترضى. قال: يا موسى، رضائي في أن تكون مَعهم، ولا تتقدمهم ولا تَسْبِقَهم، وكونُكَ مع الضعفاءِ، الذين استصحبتهم في حصول رضاي، أبلغُ مِن تَقَدُّمِكَ عليهم. اهـ.
{قال} له تعالى: {فإِنا فتنَّا قومَك من بعدِك} أي: ابتليناهم بعبادة العجل من بعد ذهابك من بينهم. رُوِيَ أنهم أقاموا على ما وصاهم به موسى عليه السلام عشرين ليلة، بعد ذهابه، فحسبوها مع أيامها أربعين، وقالوا: قد أكملنا العدة، وليس من موسى عين ولا أثر، وكان وعدهم أن يغيب عنهم أربعين يومًا، واستخلف هارون على من بقي منهم، وكانوا ستمائة ألف، فافتتنوا بعبادة العجل كلهم، ما نجا منهم إلا اثنا عشر ألفًا. وهذا معنى قوله تعالى: {وأضلَّهُمُ السامريُّ}، حيث كان هو السبب في فتنتهم، فقال لهم: إنما أخلف موسى عليه السلام ميعادكم؛ لِمَا معكم من حُليّ القوم، فهو حرام عليكم، فكان من أمر العِجل ما يأتي تفسيره إن شاء الله. فإخباره تعالى بهذه الفتنة عند قدومه عليه السلام، قبل وقوعها، إما باعتبار تحققها في علمه تعالى، وإما باعتبار التعبير عن المتوقع بالواقع، كما في قوله تعالى: {ونادى أَصْحَابُ الجنة} [الأعرَاف: 44]، أو لأن السامري كان قد عزم على إيقاع الفتنة عند ذهاب موسى عليه السلام، وتصدى لها بترتيب مبادئها، فكانت الفتنة واقعة عند الإخبار بها.
والسامري منسوب إلى قبيلة من بني إسرائيل، يقال لها: سامرة، وقيل: كان رجلاً من كرمان. وقال ابنُ عباس: كان من قرية يعبدون البقر، فدخل في بني إسرائيل وأظهر الإسلام، وفي قلبه ما فيه من حب عبادة البقرة، فابتلى اللهُ به بني إسرائيل، واسمه: موسى بن ظفر.
{فرجع موسى إلى قومه} بعدما استوفى الأربعين وأخذ التوراة، لا عقب الإخبار بالفتنة، كما يتوهم من قوله تعالى: {غضبانَ أسِفًا}، فإن كون الرجوع بعد الأربعين أمر مقرر مشهور، يرفع كون الرجوع عقب الفتنة. والأسف: أشد الغضب، وقيل: أسفًا: حزينًا جزعًا على ضلال قومه. {قال يا قوم ألم يَعِدْكُم ربُّكم وعدًا حسنًا}؛ بأن يعطيكم التوراة فيها ما فيها من النور والهدى، {أَفَطَالَ عليكم العهدُ} أي: مدة مفارقتي إياكم. والهمزة للإنكار، والمعطوف محذوف، أي: أوَعَدَكم ذلك فطال زمان الإنجاز، فأخطأتم بسببه، {أم أردتم أن يَحِلَّ عليكم غضبٌ} شديد كائن {من ربكم} أي: من مالك أمركم، {فأخلفتم موعدي} أي: وعدي إياكم بالثبات على ما أمرتكم به إلى أن أرجع من الميقات، أو وعْدَكم إياي بأن تثبتُوا على ما أمرتكم به، على إضافة المصدر إلى فاعله أو مفعوله، والفاء، لترتيب ما بعدها، كأنه قيل: أنسيتم الوعد بطول العهد فأخلفتموني خطأ {أم أردتم} حلول الغضب عليكم فأخلفتموه؛ عمدًا.
{قالوا ما أخلفنا موعدك} أي: وعدنا إياك بالثبات على ما أمرتنا به، {بمَلْكنا} أي: بسلطاننا وقدرتنا، ونحن نملك أمرنا. وفيه لغتان: فتح الميم وكسرها. يعنون: لو خلينا وأُمورَنا، ولم يسوِّل لنا السامريُّ ما سوله، ما أخلفنا، ولكن غلبنا على أمرنا، واستغوانا السامري مع مساعدة الأحوال.
وقال القشيري: أي: لم نكن في ابتداء حالنا قاصدين إلى ما حَصَلَ مِنَّا، ولا عالمين بما آلَتْ إليه عاقبة أمرِنَا، وإنَّ الذي حملنا عليه حُلِيّ القبط، صاغَ السامريُّ منه العجلَ، فآل الأمر إلى ما بلغ من الشر، وكذلك الحرامُ لا يخلو شؤمُه من الفتنة والشر. اهـ.
وقوله تعالى: {ولكِنَّا حُمِّلْنَا أوزارًا من زينةِ القوم}، استدراك عما سبق، واعتذار ببيان منشأ الخطأ، أي: حملنا أحمالاً من حُليّ القبط، التي استعرناها منهم، حين هممنا بالخروج من مصر باسم العرس. وقيل: كانوا استعاروها لعيد كان لهم، ثم لم يردوها إليهم، مخافة أن يقفوا على أمرهم. وقيل: لما رمى البحر أجساد القبط، وكان غالب ثيابهم الذهب والفضة، التقطها بنو إسرائيل، فهي زينة القوم التي صيغ منها العجل، ولعل تسميتها أوزارًا؛ لأنها تبعات وآثام، حيث لم تحل الغنائم لهم.
{فقذفناها} أي: في النار رجاء الخلاص من عقوبتها، أو قذفناها إلى السامري وألقاها في النار، {فكذلك ألقى السامريُّ} ما كان معه منها كما ألقيناه، أو ألقى ما كان معه من تراب حافر فَرس جبريل، كان قد صرَّه في عمامته، وكان ألقى إليه الشيطان: أنه ما خالط شيئًا إلا حيى، فألقاه في فمه فصار يخور.
رُوِيَ: أنه قال لهم: إنما تأخر موسى عنكم، لما معكم من الأوزار، فالرأي أن نحفر حفرة ويُسجر فيها نار، ونقذف فيها كل ما معنا، ففعلوا، {فأخرج لهم} من ذلك الحليّ المذاب {عِجْلاً} أي: صورة عجل {جَسدًا} أي: جثة ذات لحم ودم، أو جسدًا من ذهب لا روح فيه، {له خُوار} أي: صوت عِجْل، {فقالوا} أي: السامري ومن افتتن به: {هذا إِلهكم وإِله موسى فَنَسِيَ} أي: غفل عنه وذهب يطلبه في الطور. فقوله تعالى: {فَأخْرجَ لهم...} إلخ... هو من كلام الله تعالى، حكاية لنتيجة فتنة السامري، قولاً وفعلاً، قصدًا إلى زيادة تقريرها، وتمهيدًا للإنكار عليهم، وليس من كلام المعتذرين، وإلا لقال: فَأَخْرجَ لنا... والله تعالى أعلم.
الإشارة: ينبغي لرئيس القوم، إذا كان في سفر، أن يكون وسَطهم، أو سائقًا لهم، ولا يتقدمهم أو يستعجل لأمر عنهم، فإن التأني كله من الله، والعَجَلة كلها من الشيطان، والخير كله في الاجتماع مع الضعفاء والمساكين، حتى يكون كأحدهم، فإن فارقهم، لأمر مهم، فليستخلف عليهم من يثق به في دينه، وليكن اعتماده في ذلك على ربه، ونظره كله إلى رعايته وحفظه. قال الكواشي: عن ابن عطاء: أوحى الله تعالى إلى موسى عليه السلام: أتدري من أين أُتيت؟- يعني في فتنة قومه- قال: لا يا رب، قال: حين قلت لهارون: اخلفني في قومي، أين كنتُ أنا حين اعتمدتَ على هارون؟. اهـ.
فكل فتنة أو ضلال يُصيب الفقراء، فإنما ذلك من عدم الاجتماع مع أهل الفن، أو قلة الاستماع لهم، فإن أصابتهم فتنة الأسباب، والركون إلى شيء من الدنيا في غيبة الشيخ، فليرجع إليهم غضبان أسفًا، وليقل لهم: ألم يعدكم ربكم وعدًا حسنًا، وهو الفتح الكبير لو صبرتم على السير والتجريد، أفطال عليكم العهد، فقد كانت الرجال تمكث في خدمة الأشياخ العشرين والثلاثين سنة، أم أردتم أن يحل عليكم غضب من ربكم، بالإبعاد وإسْدَال الحجاب، حيث خالفتم عهود أشياخكم، فإن اعتذروا فليقبل عذرهم، وإن ركنوا إلى عبادة شيء من عجل الدنيا فليخرجه من أيديهم، وليقل: وانظر إلى إلهك الذي ظلت عليه عاكفًا، لنحرقنه ثم لننسفنه في اليم نسفًا. وبالله التوفيق.


قلت: {ألا يرجع}: أن مخففة، لأنَّ الناصبة لا تقع بعد أفعال اليقين، ومن قرأ بالنصب جعل الرؤية بصرية.
يقول الحقّ جلّ جلاله: مُنكرًا على عبدة العجل ومقبحًا لرأيهم: {أفلا يَرَوْنَ} أي: أفلا يتفكرُ هؤلاء الضالون المضلون فيعلمون {أن} الأمر والشأن: {لا يرجع إِليهم} العجل كلامًا، ولا يرد عليها جوابًا، وإنما هو جماد لا روح فيه؟ فكيف يتوهمونه أنه إله؟ وتعليق الإبصار بما ذكر مع كونه عدميًا؛ للتنبيه على كمال ظهوره، المستدعي لمزيد تشنيعهم وتركيك عقولهم. {و} هو أيضًا {لا يملك لهم ضرًّا ولا نفعًا} أي: أفلا يرون أيضًا أن العجل لا يقدر أن يدفع عنهم ضرًا، أو يجلب لهم نفعًا؟ أو لا يقدر على أن يضرهم إن لم يعبدوه، أو ينفعهم إن عبدوه.
{ولقد قال لهم هارونُ من قبلُ} أي: والله لقد نصحهم هارون ونبههم على الحق، من قبل رجوع موسى عليه السلام إليهم، وقال لهم: {يا قوم إِنما فُتنتم به} أي: وقعتم في الفتنة بالعِجْل أو ضللتم به، والمعنى: إنما فعل بكم الفتنة، لا الإرشاد إلى الحق، {وإِنَّ ربكم الرحمنُ} وحده، لا العِجْل، أرشدهم إلى الحق بعد أن زجرهم عن الباطل. والتعرض لعنوان الرحمانية؛ للاعتناء باستمالتهم إلى الحق المُفضي إلى الرحمة الشاملة، أي: إن ربكم الذي يستحق أن يُعبد هو الرحمن لا غير. {فاتبعوني} على الثبات على الدين، {وأطيعوا أمري} من ترك عبادة ما علمتم شأنه.
{قالوا} في جواب هارون عليه السلام: {لن نبرحَ عليه عاكفين} أي: لن نزال على عبادة العجل مقيمين {حتى يرجع إلينا موسى}، جعلوا رجوعه عليه السلام غاية لعكوفهم على عبادة العجل، لكن لا على طريق الوعد بتركها عند رجوعه، بل بطريق التعلل والتسويف، وقد دسُّوا تحت ذلك أنه عليه السلام لا يرجع بشيء مبين لإبطالها، تعويلاً على مقالة السامري.
رُوِيَ أنهم، لما قالوا ذلك، اعتزلهم هارون عليه السلام في اثني عشر ألفًا ممن لم يعبد العجل، فلما رجع موسى وسمع الصياح والجَلَبة، وكانوا يرقصون حول العجل، قال للسبعين الذين كانوا معه: هذا صوت الفتنة، فلما وصل إليهم قال لهم ما قال من قوله: {ألم يعدكم...} إلخ. وسمع منهم ما قالوا من قولهم: {ما أخلفنا...} إلخ. فلما رأى هارونَ أخذ شعره بيمينه، ولحيته بشماله، غضبًا، {قال يا هارونُ}، وإنما جرده من الواو؛ لأنه استئناف بياني، كأنه قيل: ماذا قال موسى لهارون حين سمع جوابهم له؟ وهل رضي بسكوته بعدما شهد منهم ما شهد؟ فقيل: {قال يا هارونُ ما منعك إِذْ رأيتَهم ضلّوا} بعبادة العجل، وبلغوا من المكابرة إلى أن شافهوك بتلك المقالة الشنعاء، {ألا تتَّبعنِ} أي: أن تتبعني.
على أن لا مزيدة، أيْ: أيّ شيء منعك، حين رأيت ضلالتهم، من أن تتبعني فميا أمرتك، وتعمل بوصيتي فتقاتلهم بمن معك؟ قال ابن عطية: والتحقيق: أن لا غير مزيدة، ويُقدر فعل، أي: ما منعك مجانبتهم وسوّل لك ألا تتبعن. اهـ. قلت: وفيه نظر؛ لأن مجانبة هارون عليه السلام للقوم كانت حاصلة، وإنما أنكر عليه عدم مقاتلتهم، أو عدم لحوقه ليخبره، فتأمله. وقيل: المعنى: ما حملك على ألا تتبعن، فإن المنع من الشيء مستلزم للحمل على مقابله، وقيل: ما منعك أن تلحقني وتُخبرني بضلالهم، فتكون مفارقتك زجرًا لهم، وهذا أظهر.
{أفعَصَيتَ أمري} بالصلابة في الدين والمحاماة عليه، فإن قوله: {اخلفني في قومي} متضمن للأمر بهما حتمًا، فإن الخلافة لا تتحقق إلا بمباشرة الخليفة ما كان يباشره المستخلف لو كان حاضرًا، والهمزة للإنكار، والفاء للعطف، أي: أخالفتني فعصيت أمري.
{قال يا ابن أمَّ}، خص الأم بالذكر؛ استعطافًا لحقها، وترقيقًا لقلبه، لا لما قيل من أنه كان أخاه لأمه، فإن الجمهور على أنهما شقيقان. قال له: {لا تأخذْ بلحيتي ولا برأسي} أي: بشعر رأسي. وقد كان عليه السلام أخذ بهما كما تقدم، من شدة غيظه وفرط غضبه لله، وكان حديدًا متصلبًا في كل شيء، فلم يتمالك حين رآهم يعبدون العجل، حتى فعل ما فعل. ثم اعتذر له أخوه بقوله: {إِني خشيتُ} إن قاتلتُ بعضهم ببعض وتفرقوا، {أن تقول فرقتَ بين بني إِسرائيل} برأيك، مع كونهم أبناء رجل واحد، كما يُنبئ عنه ذكرهم بذلك العنوان دون القوم ونحوه. وأراد عليه السلام بالتفريق ما يستتبعه القتال من التفريق: الذي لا يُرى بعده اجتماع، فخشيتُ أن تقول: فرقت بينهم، {ولم ترقبْ قولي} أي: قوله: {اخلفني في قومي وأصلح...} إلخ، يعني: إني رأيت أن الأصلح هو في حفظ الدماء والمداراة معهم، إلى أن ترجع إليهم، فلذلك استأنيتك؛ لتكون أنت المتدارك للأمر بما رأيت، لا سيما وقد كانوا في غاية القوة، ونحن على القلة والضعف، كما يُعرب عنه قوله: {إِنَّ القوم استضعفوني وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِي} [الأعرَاف: 150]. والله تعالى أعلم.
الإشارة: كل من اعتمد على غير الله، أو مال بمحبته إلى ما سوى الله، فهو في حقه عجل بني إسرائيل، فيقال له: كيف تركن إليه وهو لا يملك لك ضرًا ولا نفعًا، وإنما فُتنت به عن السير إلى ربك، وانطمست به حضرة قدسك، فربك الرحمن الكريم المنان، فاتبع ما أمرك به من الطاعات، وكن عبدًا له في جميع الحالات، تكن خالصًا لله، حُرًا مما سواه. وبالله التوفيق.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8